[size=16]كثير هم الدعاة والحكماء والبلغاء في تلك الفترة ، ولكن قليل منهم المخلصين الذين انبثقت عقيدتهم ومنهجهم من منهج أهل السنة والجماعة ... لذا " لما كان الحديث عن المصلحين والدعاة والمجددين، والتذكير بأحوالهم وخصالهم الحميدة، وأعمالهم المجيدة، وشرح سيرتهم التي دلت على إخلاصهم، وعلى صدقهم في دعوتهم وإصلاحهم، لما كان الحديث عن هؤلاء المصلحين المشار إليهم، وعن أخلاقهم وأعمالهم وسيرتهم، مما تشتاق إليه النفوس، وترتاح له القلوب، ويود سماعه كل غيور على الدين ، وكل راغب في الإصلاح، والدعوة إلى سبيل الحق، رأيت أن أتحدث إليكم عن رجل عظيم ومصلح كبير، وداعية غيور، ألا وهو الشيخ المجدد للإسلام في الجزيرة العربية في القرن الثاني عشر من الهجرة النبوية ...
هو المصلح العظيم وباعث النهضة الإسلامية في العصر الحديث الإمام محمد بن عبد الوهاب بن سليمان بن علي التميمي الحنبلي.
لقد عرف الناس هذا الإمام ولا سيما علماؤهم ورؤساؤهم، وكبراؤهم وأعيانهم في الجزيرة العربية وفي خارجها، ولقد كتب الناس عنه كتابات كثيرة ما بين موجز وما بين مطول، ولقد أفرده كثير من الناس بكتابات، حتى المستشرقون كتبوا عنه كتابات كثيرة، وكتب عنه آخرون في أثناء كتاباتهم عن المصلحين، وفي أثناء كتاباتهم في التاريخ، وصفه المنصفون منهم بأنه مصلح عظيم، وبأنه مجدد للإسلام، وبأنه على هدى ونور من ربه، وإن تعدادهم يشق كثيرا.
ومن جملتهم المؤلف الكبير أبو بكر الشيخ حسين بن غنام الأحسائي . فقد كتب عن هذا الشيخ فأجاد وأفاد، وذكر سيرته وذكر غزواته، وأطنب في ذلك وكتب كثيرا من رسائله، واستنباطاته من كتاب الله عز وجل.
وممن كتب عنه أيضا الشيخ عثمان بن بشر في كتابه عنوان المجد، فقد كتب عن الإمام الشيخ ( محمد بن عبد الوهاب ) أيضا، وعن دعوته، وعن سيرته، وعن تاريخ حياته، وعن غزواته وجهاده.
وممن كتب عنه من خارج الجزيرة الدكتور أحمد أمين في كتابه زعماء الإصلاح، فقد كتب عنه وأنصف، ومنهم الشيخ الكبير مسعود الندوي ، فقد كتب عنه وسماه: المصلح المظلوم، وكتب عن سيرته وأجاد في ذلك، وكتب عنه أيضا آخرون، منهم الشيخ الكبير الأمير محمد بن إسماعيل الصنعاني ، فقد كان في زمانه وقد كان على دعوته. فلما بلغه دعوة الشيخ سُر بها وحمد الله عليها.
وكذلك كتب عنه العلامة الكبير الشيخ محمد بن علي الشوكاني ، صاحب نيل الأوطار ورثاه بمرثية عظيمة، وكتب عنه جمع غير هؤلاء يعرفهم القراء والعلماء وبمناسبة كون كثير من الناس قد يخفى عليه حال هذا الرجل وسيرته ودعوته رأيت أن أساهم في بيان حال هذا الرجل ، وما كان عليه من سيرة حسنة، ودعوة صالحة، وجهاد صادق ، وأن أشرح قليلا مما عرفته عن هذا الإمام الرباني حتى يتبصر في أمره من كان عنده شيء من لُبْس، أو شيء من شك في حال هذا الرجل، ودعوته، وما كان عليه .
مولده
ولد الإمام ( محمد بن عبد الوهاب ) في عام (1115) هجرية، هذا هو المشهور في مولده رحمة الله عليه، وقيل في عام (1111) هجرية، والمعروف الأول: أنه ولد في عام 1115 هجرية على صاحبها أفضل الصلاة وأكمل التحية.
نشأته وتلقيه العلم
تعلم على أبيه في ( بلدة العيينة ) وهذه البلدة هي مسقط رأسه رحمه الله عليه وهي قرية معلومة في اليمامة في نجد ، شمال غرب مدينة الرياض، بينها وبين الرياض مسيرة سبعين كيلو متر، ولد فيها رحمة الله عليه، ونشأ نشأة صالحة .
قرأ القرآن مبكراً قبل بلوغ العاشرة وكان ذكيا حاد الفهم أخذ العلم عن والده وغيره ثم ذهب لطلب العلم إلى البصرة ومكة والمدينة و الإحساء وغيرها، ثم عاد إلى نجد. كان آمرا بالمعروف ناهيا عن المنكر داعيا إلى توحيد الله وإقامة حدوده ونبذ الشرك والبدع التي انتشرت في وقته ولاقى في سبيل ذلك أذى كثيرا رحمه الله .
اجتهد في الدراسة والتفقه على أبيه الشيخ عبد الوهاب بن سليمان وكان فقيها كبيرا، وكان عالما قديرا، وكان قاضيا في بلدة العيينة. ثم بعد بلوغ الحلم حج وقصد بيت الله الحرام، وأخذ عن بعض علماء الحرم الشريف. ثم توجه إلى المدينة على ساكنها أفضل الصلاة والسلام، فاجتمع بعلمائها وأخذ العلم عنهم ، انتقل وارتحل وأخذ عن عدّة مشايخ أجلاء وعلماء فضلاء منهم :
1.والده الشيخ عبدالوهاب بن محمد التميمي رحمه الله مفتي نجد ، أخذ عنه الفقه بعد أن حفظ القرآن عليه عن ظهر قلب.
2.الشيخ عبدالله بن إبراهيم بن سيف النجدي المدني ، وقد قرأ عليه وأجازه بكل ما حوى .
3.الإمام المحدث محمد حياة السندي رحمه الله ، وكان له أكبر الأثر في توجيهه إلى إخلاص توحيد عبادة الله ، والتخلص من رق التقليد الأعمى والاشتغال بالكتاب والسنة . وقد كان أحد مشايخه في علم الحديث .
4.الشيخ محمد المجموعي صاحب البصرة رحمه الله ،وهو عالم جليل أقام عنده - الشيخ محمد - في البصرة وقرأ عليه.
5.الشيخ علي أفندي داغستاني - رحمه الله - جلس يدرس عليه في المدينة النبوية وأجازه .
6.الشيخ عبدالطيف العفالقي الأحسائي - رحمه الله ، ولقد أجاز الإمام محمد بن عبد الوهاب بكل ما حواه .
7.الشيخ إسماعيل العجلوني -رحمه الله
8.الشيخ عبدالله بن سالم البصري -رحمه الله ، وذكر ما قرأ عليه وهو في الثانية عشر من عمره .
9.الشيخ صبغة الله الحيدري - رحمه الله ،وقد أخذ عنه ببغداد.
وغيرهم من العلماء وأجازه محدثو العصر بكتب الحديث وغيرها، كما سمع عن عبد الله بن إبراهيم النجدي ثم المدني. ثم رحل الإمام المجدد لطلب العلم إلى العراق ، فقصد البصرة واجتمع بعلمائها، وأخذ عنهم ما شاء الله من العلم، وأظهر الدعوة هناك إلى توحيد الله ، ودعا الناس إلى السنة، وأظهر للناس أن الواجب على جميع المسلمين أن يأخذوا دينهم عن كتاب الله، وسنة رسول الله عليه الصلاة والسلام، وناقش وذاكر في ذلك، وناظر من هنالك من العلماء واشتهر من مشايخه هناك شخص يقال له الشيخ محمد المجموعي ، وقد ثار عليه بعض علماء السوء بالبصرة، وحصل عليه وعلى شيخه المذكور بعض الأذى، فخرج من أجل ذلك، وكان من نيته أن يقصد الشام، فلم يقدر على ذلك لعدم وجود النفقة الكافية، فخرج من البصرة إلى الزبير، وتوجه من الزبير إلى الإحساء واجتمع بعلمائها وذاكرهم في أشياء من أصول الدين، ثم توجه إلى بلدة حريملاء وذلك - والله أعلم - في العقد الخامس من القرن الثاني عشر في عام 1140 هجرية أو ما بعدها، واستقر هناك، ولم يزل مشتغلا بالعلم والتعليم، والدعوة في حريملاء حتى مات والده عام 1153 هجرية، فحصل من بعض أهل حريملاء شر عليه، وهم بعض السفلة بها أن يفتك به، وقيل إن بعضهم تسور عليه الجدار، فعلم بهم بعض الناس فهربوا ، وهكذا لما اشتهر أمره عاداه كثير من الناس ـ كما هي سنة الله فيمن دعا إلى الحق ـ إما جهلا أو حسدا وعنادا للحق ، وبعد ذلك ارتحل الشيخ إلى العيينة رحمة الله عليه .
وأسباب غضب هؤلاء السفلة عليه أنه كان آمرا بالمعروف ناهيا عن المنكر، وكان يحث الأمراء على تعزير المجرمين، الذين يعتدون على الناس بالسلب والنهب والإيذاء، هؤلاء السفلة الذين يقال لهم العبيد هناك، ولما عرفوا من الشيخ أنه ضدهم، وأنه لا يرضى بأفعالهم، وأنه يحرض الأمراء على عقوباتهم، والحد من شرهم، غضبوا عليه وهموا أن يفتكوا به، فصانه الله وحماه، ثم انتقل إلى بلدة العيينة وأميرها إذ ذاك عثمان بن ناصر بن معمر ، فنزل عليه ورحب به الأمير، وقال قم بالدعوة إلى الله ، ونحن معك وناصروك، وأظهر له الخير، والمحبة والموافقة على ما هو عليه.
فاشتغل الشيخ بالتعليم والإرشاد والدعوة إلى الله عز وجل، وتوجيه الناس إلى الخير، والمحبة في الله رجالهم ونسائهم، واشتهر أمره في العيينة، وعظم صيته، وجاء إليه الناس من القرى المجاورة، وفي يوم من الأيام قال الشيخ للأمير عثمان: دعنا نهدم قبة زيد بن الخطاب رضي الله عنه فإنها أسست على غير هدى، وأن الله عز وجل لا يرضى بهذا العمل، والرسول نهى عن البناء على القبور، واتخاذ المساجد عليها، وهذه القبة فتنت الناس وغيرت العقائد، وحصل بها الشرك فيجب هدمها، فقال الأمير: لا مانع من ذلك، فقال الشيخ: إني أخشى أن يثور أهل الجبيلة، والجبيلة قرية هنالك قريبة من القبر، فخرج عثمان ومعه جيش يبلغون 600 مقاتل لهدم القبة. ومعهم الشيخ رحمة الله عليه، فلما قربوا من القبة خرج أهل الجبيلة لما سمعوا بذلك لينصروها ويحموها. فلما رأوا الأمير عثمان ومن معه كفوا ورجعوا عن ذلك. فباشر الشيخ هدمها وإزالتها، فأزالها الله عز وجل على يديه رحمة الله عليه " .
وكانت دعوته السلفيّة المباركة - طيب الله ثراه - مستمدة من سنة النبي الأمين ، والسلف الصالح – تنبع من صميم منهاج أهل السنة والجماعة . كانت تحرر العقل من البدع والخرافات والشعوذة التي كانت تتغذى من واقع التخلف وقيم الدولة العثمانية ومراحل الانحطاط في الواقع العربي، حيث كانت بداية التأسيس العلمي والحضاري للمجتمع الجديد.
ولم يكن يقصد - رحمه الله - فالرجوع إلى سيرة السلف الصالح إلى الرجوع بالتاريخ إلى الوراء ولا استنساخ أي تجربة من تجارب الماضي وإنما استلهم قوة تلك الفترة، أما اعتبار الفوارق الزمنية واختلاف العصور وما ينتج عن ذلك من خلاف طبيعة الحلول، فتلك أمور كانت تعتبر من المسلمات ولم تكن موضوع نقاش في كتابات الإمام الشيخ محمد بن عبد الوهاب - طيب الله ثراه – ولم يكن الشيخ يوماً مقلداً، وإنما كان مجتهد عصره، ومدرسته منفتحة على المذاهب الأربعة وتتبين الفارق بين خرافات التصوف في الدولة العثمانية في القرن الثامن عشر ومناهج التربية الروحية في الإسلام.
والناظر في دعوة الشيخ يجد أنها امتداداً لفهم السلف الصالح للكتاب والسنة، ولم تكن وليدة دعوة الإمام بل كانت أيضاً امتداداً للعلماء عبر القرون مثل الأئمة الأربعة وابن تيمية وابن القيم والشيخ عبد الله بن إبراهيم بن سيف، الذي تتلمذ الإمام على يده ، وأيضا فقيه صنعاء محمد بن إسماعيل الصنعاني، والعالم المجتهد محمد الشوكاني، فالعقيدة السلفية التي دعا لها الشيخ - رحمه الله - إنما هي عقيدة حضارية كاملة وليست مجرد دعوة منحصرة في واقعها المحلي ، أو مرتبطة بظروف البداوة فقط كما يعتقد البعض كما ذكرت . فدعا إلى محو كل ما هو مخالف للإسلام الصحيح، والعودة إلى الإسلام في صورته الأولى، في بساطته وطهارته ونقائه، وصدق التوحيد واتصال العبد بربه من غير واسطة ولا شريك.
وكان الإمام " محمد بن عبد الوهاب " يرى أن ما لحق بالمسلمين من ضعف وسقوط إنما هو بسبب ضعف العقيدة، والبعد عن التوحيد، فقد كانت العقيدة الإسلامية في أول عهدها صافية نقية من أي شرك، وبهذه العقيدة وحدها انتصر المسلمون وفتحوا العالم.
وكانت ترتكز دعوته المباركة على عدّة ركائز أهمها:
1.الدعوة إلى التوحيد الخالص من شوائب الشرك صغيره وكبيره.
2. الإتباع التام لسنة رسول الله الخالص من شرور الابتداع والخرافات حتى لو كان يسيرا.
3. الدعوة إلى الرجوع إلى الكتاب والسنة، بفهم علماء السلف، وجعلهما المصدر الأساس للدين والبعد عن الجمود على التقليد إذا استبان الدليل، مع البعد عن علم الكلام.
4. الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وما يلزم من ذلك من نشر العلم الشرعي والجهاد في سبيل الله وإقامة الحدود والرد على أهل الباطل.
5. إحياء مبدأ الولاء للمؤمنين ولو كانوا أبعد الناس والبراء من المشركين والملحدين ولو كانوا أقرب الناس
دعوته إلى التوحيد
كان – يرحمه الله - حنبلي المذهب، يميل إلى الشدة في التعاليم الدينية، ولا يأخذ بالرخص، فاستنكر كثيرًا من البدع الفاشية بين المسلمين، ورأى فيها شركًا بالله، ودعا إلى التوحيد، وتنقية الدين من البدع والخرافات، وتخليصه مما داخَلَه من انحراف، فدعا قومه إلى نبذ البدع، وطرح كل ما لم يرد في القرآن والسنة من الأحكام والتعاليم، والرجوع بالدين إلى فطرته النقية وبساطته الأولى، وسعى إلى تنقية العقيدة من تلك الشوائب والشبهات، والعودة إلى التوحيد الخالص والعقيدة الصافية؛ ولذلك فقد أُطلِقَ على تلاميذه وأتباعه اسم " الموحدين أو السلفيين " ، وأما اسم "الوهابيين" الذي عُرفوا به في الوقت المعاصر ، فقد أطلَقَهُ عليهم خصومهم، واستعمله الأوروبيين والغربيين حتى صار عَلمًا عليهم .
وقد قامت دعوته – رحمه الله - على فكرة التوحيد، فالتوحيد أساسه الاعتقاد بأن الله وحده هو خالق هذا الكون، وأنه هو المسيطر عليه، وواضع قوانينه التي يسير عليها، وليس في الخلق من يشاركه في خلقه ولا في حكمه، ولا من يعينه على تصريف أموره؛ فهو وحده الذي بيده الحكم، وهو وحده الذي يملك النفع والضر، وليس في الوجود من يستحق العبادة والتعظيم سواه.